الاثنين، 29 سبتمبر 2014

وهم الفكر الغربي عن الإسلام


الفكر الشيوعي أو الفلسفة الماركسية جهد بشري محض لم يكتب له النجاح لأنه يصادم الفطرة في الإنسان ، في محاربته للملكية وحرية الاعتقاد وحرية الفكر فانهارت لأنَّها ما لها من قرار مكين ، وحَسِبَ الغرب أنَّ ذات الوسائل والطرق التي أسقطت بها الشيوعية وأفل نجمها يمكن أنْ يُقتلع الإسلام ، كما عبَّر الإعلام الغربي وحرَّض النُخبة على ذلك . إنَّ الإسلام عقيدة ربانية بقاؤها في حياة الناس حتميٌ ، مهما وضع البشر من تدابير لإزالته ، وقد أشاع القرآن هذا النبأ لكل الناس ، قال تعالى : ( أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ ، تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ  )[1]õ.

فالمثال يشمل كل الورى بما فيهم أهل الغرب ، وأنَّ اقتلاع الإسلام من قلوب الذين آمنوا به مستحيل وأنَّه سوف يسود يوماً ما في العالم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( إنَّ الله زوى لي من الأرض فرأيتُ مشارِقِها ومغارِبِها وإنَّ أمتي سيبلغُ ملكها ما زوى لي منها ) [2]õ.

فلعل اليهود بما لهم من إلمام بمستقبل الإسلام كما جاء عندهم في التوراة يسعون لإيقاف زحفه نحو الغرب ، واليهود لهم نصيب في الهزيمة والإذلال على يد المسلمين في أحاديث النبوءات ، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : ( قال رسول الله  صلى الله عليه وسلم : لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر أو الشجر ، فيقول الحجر أو الشجر : يا مسلم ، يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله ، إلاَّ الغرقد فإنَّه من شجر اليهود )[3]õ.

فكل دينٍ منحرفٍ أو فكرٍ مزيفٍ لا يقوَى على البقاء ، فهو لا محالة ذاهبٌ طال الزمان أم قصر ، وقد أعلن الإعلام الإسلامي ذلك للعالمين ، فكل المبادئ التي تعادي الحق وتدعو للظلم وتسعى لسفك دماء المسلمين باسم الحروب الصليبية التي خلَّفت إرثاً في نفوس الغربيين سوف تذهب ، لقد اختلت عندهم معايير العدل والإنصاف نحو الشعوب الإسلامية بل نحو الإسلام كدين ، وكل فكر أو منهج يؤسس على الباطل فهو باطل ، وضرب الله مثلاً لكل ما ينشأ على الدناءة والظلم بقوله ( وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ  ) [4]õ.

ففرعون لما توجّس خيفةً على مُلكِهَِ بسبب التشويش الإعلامي الذي قال به الكُهًّان عن مولودٍ آتٍ سيزيل سلطانُه ، كان يَعْدِمُ كل الذُكُور من المواليد خشيةً من المجهول وهو ذات الخوف والتوجُّس الذي يشيعه السَّاسة والإعلام الغربي عن خطر الإسلام وضرورة استئصاله قبل أن يستفحل ويصبح مهدداً للأمن في أوربا وأمريكا كما يتوهمون ، بل تخشى تلك الدول أن يُهدد الإسلام مصالحها في العالم ، ولهذا نرى هذا الهياج السياسي والإعلامي الجنوني في الغرب ضد كل شيء له صلة بالإسلام ، وما ينعت به الإعلام الغربي المسلمين بالإرهاب والتطرف والتشدد ليس عن الأذهان ببعيد ( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ ) [5]õ.

إنَّ كل مجتمع يعزز النظام الخاص به الذي يعكس ظروفه ويمثل في الوقت ذاته المحور والإطار العام لوظائف الإعلام ودوره ، فقد أبرزتْ المجتمعات الرأسمالية الغربية نُظُماً إعلاميةً تقوم على المِلكية الخاصة وحُرية النشر والتنافُس ، وكان لليهود القدح المُعلّى في مِلكيَّة وسائل الإعلام فسخَّّروها لتشويه صورة الإسلام في ذهن المواطن الغربي ، وخدموا بها مخططاتهم ، وحققوا بها أهدافهم الإستراتيجية ، فظل الغرب يتعاطف مع إسرائيل ضد العرب والمسلمين حتى وإن قتلت المدنيين الأبرياء ، ملجأ      { قانا } في جنوب لبنان وأطفال فلسطين ، ومجزرة صبرا وشاتيلا ، 1982م في لبنان .

تأجيج العداء للإسلام في الغرب :-

في عام 1962م تولَّتْ {هوليود} كيد تسريب الإفك العظيم من خلال فيلم {أكاذيب حقيقية} بطولة { أرنولد شوارز ينجر} وهو فيلمٌ يحكي عن إحدى المليشيات العربية الموجود داخل الولايات المتحدة ، تتخذ من كلمة الحرية الإسلامية شعاراً لها ، تخطط له من خلال طائرة مخطوفة وقنبلة شديدة الانفجار مُهرَّبة من خارج أمريكا لإلقائها من خلال الطائرة وسط مدينة {نيويورك} ، لإحداث الدمار المطلوب بأهم المنشآت الأمريكية القريبة من مركز التجارة العالمي ! ولكن الفيلم يجعل البطل ضابط المخابرات الأمريكية وزوجته ينقذان {نيويورك} من الدمار بإجبار قائد الطائرة المسلم أنْ يصدُم بطائرته إحدى المباني بعد إبطال مفعول القنبلة ، هذا الفيلم تَقَدَّم على تدمير برج التجارة العالمي بما يقرب من العشر سنوات ، وهو أسلوب إعلامي يحمل مُكراً وتدبيراً متقدماً لتجريم الفكر الإسلامي واتهام المسلمين بالإرهاب وتهديد أمريكا من الداخل .

( إنَّ صناعة السينما تشكل إلى حدٍ كبيرٍ ليس فقط الرأي العام على أهمية دوره في المجتمعات الغربية بل الأهم من ذلك تشكيلها للوجدان ، ولمجموعةٍ من القيم والرموز التي تمثل عصب الحياة في العالم الغربي ، ففي أواخر الثمانينيات من القرن العشرين مع بداية أُفول الاتحاد السوفيتي بدأت عمليات التحضير لإبراز صورة العالم الإسلامي بوجلٍ وترقبٍ كبديل للشيوعية المحتضرة ، وفيها أُنتِجَ فيلم { ذي دلتا فورس }                  و{ المنتقم }1986م و{ الموت قبل العار }1987م ، و{ سرقة السماء } 1988م ، حيث يأتي العدو العربي الإسلامي الخارق في مثل هذه الأفلام ممتلكاً أسلحةً ذات قوةٍ تدميريةٍ شاملة ، يُهدِّد بها الأبرياء الذين يتدخل الغربي { الطيب } من أجل إنقاذِهِم وحمايتِهِم ، وهكذا تتحول المواجهة بين الغربي المدافع عن حقوق الإنسان والشيوعي الأحمر الشرير إلى مواجهة مع العدو الإسلامي الأخضر ) [6]õ.

تلك نماذج من إنتاج وسائل الإعلام في الغرب كانت تُمهِّد للانقضاضِ على الإسلام والمسلمين من وقتٍ مبكرٍ ، بتهيئة ذهن المواطن الغربي وغرس الكراهية ضد الإسلام في وجدانِهِ ، لهذا جاءَ اجتياح أفغانستان والعراق والصومال بمباركة وتأييد الشعوب في الغرب لأن كراهية المسلمين أصبحتْ جزءاً من معتقداتهم ، وذلك بالطرقْ الإعلامي المتصل على المُتلقِّي بأنَّ الإسلام دينٌ يلف الدنيا بظلامٍ من الليل ما له من صباحٍ ، لهذا  لا بد من القضاء على أهله قبل أن يَستفحل أمرهم في العالم ، تلك أمانِيهُم ولكن لله مقال (يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ  )[7]õ.

قال الشيخ السعدي : ( يريدون إطفاء نور الله وهو الإسلام الهادي للتي هي أقوم في الحياة بما يُروِّجون من مقالاتٍ مُضلِّلة كذوبة، يَردون بها الحق ، وهي لا حقيقة لها، بل تزيدُ البصيرةَ معرفةً بأهدافِهِم وخُبثِهِم ، والله تكفَّل بنصرِ أوليائِهِ وإظهاِرهِم على عدوِّهِم ولو كَرِه المُجرِمون ) [8]õ.

القرآن والمعاصرة:-

لقد ختم الله تعالى بالقرآن الكتب السماوية ، والقرآن هو معجزة الزمان أتم الله به كل المنهاج ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ                   دِيناً ) [9]õ ، فالكتاب والسنة أكمل الله تعالى فيهما الشرائع الظاهرة والباطنة ، الأصول منها والفروع ، فمن ادَّعى للناس أنَّ معرفة عقائدهم خارج هذا المنهاج فهو مبتدع وداعٍ إلى الباطل . فقد نزل القرآن مُنَجّماً حتى يغطي كل المناسبات والأحداث التي عاصرها الرسول صلى الله عليه وسلم من أحداث الجهاد والغزوات والتدرج في الأحكام ، ثم فقه الشعائر التعبدية وأحكام العبادة في الإسلام بالمصطلح الفقهي العام والولاء والبراء ، قال تعالى : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ) [10]õ.

هذا المنهاج يتفق والحقيقة الإعلامية التي لا تقبل التغيير والقرآن صالح لكل زمان ومكان لأنَّ مصدره الله تعالى أعلم العالمين بما يصلح الإنسان أو يفسده ، إذاً فهو كتاب لكل عصر أو مصر ، فبعد مرور خمسة عشر قرناً من الزمان لا يزال الإعلام القرآني يتلألأ نوره في سماء الحياة بمنهاجه الواقعي الذي يدعو للعدل والمساواة ، ويدعو للرحمة بين الناس ، وفي الحديث؛ عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( الراحِمونَ يرحمهُم الرحمن ، ارحمُوا مَنْ في الأرضِ يرحمَُكم مَنْ في السماءِ ، الرحم شجنة من الرحمن ، فمن وصلها وصله الله ومن قطعها قطعه الله )[11]õ، ويدعو للعفاف في عالمٍ متهتكٍ ( إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [12]õ. وحرَّم أن يدعي غير الله تعالى وحرَّم قتل النفس والزنا من الفواحش ( وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً ، يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانا ً) [13]õ.

تلك نماذج مما جاء به القرآن، والناس في هذه الحياة التي أصابها الاضطراب، في حاجةٍ لشرعةٍ كالتي قال بها الله في كتابه العزيز حتى يحسوا بالطمأنينة والأمان والعدل والأمن على الدماء والأموال والأعراض. إنَّ الله تعالى أعلم حيث يجعل رسالته ولما كان القرآن الكريم منهجاً سرمدياً والحياة متجددة ، جعل المرجعيَّةً إن أشكل على المسلمين أمر بأن يردوه إلى الكتاب والسنة والراسخين في العلم ، قال تعالى : ( وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ     أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً ) [14]õ. وفي هذا الإعلان تأديبٌ للمؤمنين، إذا أتاهم شيء من الأمور المهمة والمصالح العامة، أو أتاهم الخوف الذي فيه المصائب والمضرَّة ألاَّ يستعجلوا إشاعته بين الناس فكل شيء يجب أنْ يُرَدُ إلى أهل الاستنباط من أهل العلم  والآراء السديدة والحكماء ، فما من علمٍ إلاَّ ويرجع فيه لأصحاب الاختصاص من العلوم الشرعية أو العلو الكونية { علوم الحياة } وكلٌ ميسرٌ لِما خُلِقَ له.

الإعلام الإسلامي والعلاقات السياسية:-

إنَّ الإسلام دينٌ يقوم على الواقعية ويراعي مصالح الناس، وقد كان اليهود في المدينة لهم ما لغيرهم من المصالح والملكية ودور العبادة وحفظ الدماء والأعراض والأموال... الخ. إلاَّ أنَّ القرآن وضع حدوداً لتلك العلاقة في مستوياتها العليا في حالة أمة تقابلها أمة أخرى ، إذ حرَّم الله تعالى ولاية المؤمنين لليهود والنصارى ، وهو حكم إلهي لواقع العالم العربي والإسلامي في العصر الحديث إذ وضع بعض المسلمين أيديهم مع اليهود والنصارى ضد إخوانهم الذين تربطهم بهم آصرة الإسلام ورباطه المتين ، قال الله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ) [15]õ ، وهذا النهي صريحٌ لا لبس فيه فاليهود والنصارى أصحاب صفات ليست حسنة وهم عكس المسلمين لا يؤمنون أنَّ محمداً رسول من عند الله ولا يعترفون بالإسلام ولا يعتقدون أنَّ القرآن الكريم وحيٌّ من رب العالمين ، في حين أنَّ المسلمين إذا لم يؤمنوا بموسى وعيسى والتوراة والإنجيل لا يقبل الله منهم إيماناً به ولا بمحمدٍ صلى الله عليه وسلم ، فالإيمان بالرسل جميعاً والكتب السماوية في أصلها شرط صحة لإيمان المسلم حتى وإن حرَّف الأحبار والرهبان كتابي موسى وعيسى - عليهما السلام ، فالقرآن هيمن على ما جاء فيهما من الأحكام ( شرعة منْ قبلنا شرعة لنا ).

إنَّ الوعيد الذي قال الله به للمؤمنين إن هم والوا اليهود والنصارى من دون ملتهم  إعلام قيل على الملأ أنَّ من والاهم في سياستهم أو اقتصادهم الربوي أو تصنيفهم للمسلمين بين معتدلٍ ومتطرفٍ أو بين موالٍ أو معادٍ فهو من شيعتهم يجري عليه ما يجري عليهم من أحكام يوم القيامة ، ويُعدُّ موقف من يواليهم مناقضاً لما قال به الرسول صلى الله عليه وسلم من بعد الله تعالى في حق المؤمنين ، فعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : المسلمون تتكافأ دماؤهم وهم يد على من سواهم يسعى بذمتهم أدناهم ويرد على أقصاهم[16]õ، والتولي عادةً ما ينبع من أسباب عند موالي إما خوفاً على نفسه أو ملكه وسلطانه أو طمعاً في دنيا أو لاتقاء شرٍ يمكن أن يصدر مِن منْ يوالى ، وقد صوَّر الإعلام في القرآن هذا الموقف ( فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ) [17]õ.

يقول سيد قطب : ( تشير نصوص هذا الدرس إلى طريقة المنهج القرآني في تربية الجماعة المسلمة وإعدادها لدورها الذي قدره الله لها ، كما تشير إلى مقومات هذا المنهج والمبادئ التي تريد تقريرها في النفس المسلمة وفي الجماعة المسلمة في كل حين وهي مقومات ومبادئ ثابتة ، ليست خاصة بجيل دون جيل من هذه الأمة إنَّما هي أساس النشأة للفرد المسلم وللجماعة المسلمة في كل جيل . إنَّ هذا القرآن يربي الفرد المسلم على أساس إخلاصه وولائه لربه ولرسوله وعقيدته وجماعته المسلمة ، وعلى ضرورة المفاصلة الكاملة بين الصف الذي يقف فيه وكل صف آخر لا يرفع راية الله تعالى      ولا يتبع قيادة رسول الله ، ثم القرآن وعى المسلم بحقيقة أعدائه ، وحقيقة المعركة التي يخوضها معهم ويخوضونها معه ، إنها معركة العقيدة ، فالعقيدة هي القضية القائمة بين المسلم وكل أعدائه فهم يعادونه لعقيدته ودينه قبل أي شيء آخر ) [18]õ.

إنًّ سماحة الإسلام مع اليهود والنصارى كأهل كتاب شيء ، وعملية اتخاذهم أولياء شيء آخر ، فبعض المسلمين يختلط عليهم الأمر فتغيب عليهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين وما يرمي إليه وفق ما قال به القرآن بتصوراته ومقاصده الربانية التي تختلف عن سائر التصورات البشرية وتصطدم أحياناً بشهوات الناس وانحرافاتهم وفسوقهم عن منهج الله تعالى ، فالتوجيهات القرآنية واضحة وصريحة فالخلط بين دعوة الإسلام أي السماحة في معاملة أهل الكتاب وبرهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق ، وبين الولاء الذي لا يسمح الإسلام به إلاَّ لله ورسوله والمؤمنين بون شاسع.

فالقرآن الكريم قد أعلن أنَّ أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حربهم ضد المسلمين ، والإسلام دين واقعي فالذي يريد التأكد من هذه الحقيقة عليه أن يحصي خطى التاريخ منذ الأيام الأولى لنزول الوحي ( أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً ) [19]õ ، وهذه من سيئات اليهود في المدينة الذين كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج قبل الإسلام ، فلما جاءهم نبي من غير بني إسرائيل كفروا به وتولوا وهم معرضون ، بل سعوا إلى مكة وهي تعبد الأصنام ، ولا تؤمن بموسى ولا بالتوراة فمالوها على الباطل وشايعوا أئمتها ضد الإسلام والجماعة المسلمة ورسولها صلى الله عليه وسلم . بل زينوا لهم الكفر البواح بأنَّه سبيل هداية أقوم مما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الوحي.

فلو أنَّ أهل الكتاب رائدهم الحق لقاربوا الملة المسلمة لأنَّهم أهل كتاب مثلهم ، إنَّ الوصف الإعلامي في القرآن لليهود والنصارى كان دقيقاً وواضحاً ، قد بدأت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر ، لقد حكى التاريخ عن المعارك التي حدثت بين الفرس المجوس عبدة النار والروم ، فكانت الغلبة أول مرة للفرس ، وسمع المسلمون بالخبر وهم قليلون مستضعفون في مكة ، فأصابهم الحزن لما لحق بالنصارى من الهزيمة والانكسار على يد الفرس ، وقد صوَّر القرآن ذلك الموقف وبشَّر المسلمين أنَّ الدائرة ستكون للروم في الجولة القادمة ، ويومها يفرح المؤمنون بنصر الله ، قال تعالى :       (  الم ، غُلِبَتِ الرُّومُ ،  فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ ،  فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ  ، بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ) [20]õ.


وكانت تلك فرصة لأهل مكة حيث استعلت عقيدة الشرك على عقيدة الإيمان ففرحوا واغتبطوا وشمتوا على المسلمين بأنَّ الروم النصارى قد هزموا على يد الفرس عبدة النار ، والمؤمنون بالله يسعدهم في كل عصر أنْ يروا ملة الإيمان قد انتصرت   فكان وعد الله لهم أنَّ النصر آتٍ في بضع سنين وقد دالت الأيام على الفرس وانتصر الروم عليهم ، وزاد ذلك الحدث المسلمين إيماناً على إيمان ، فبشارات الإسلام تحقيقها حتمي ووعدها غير مكذوب ، لقد أدرك النصارى أنَّ المسلمين يحفظون لهم كل ودٍ لقربهم منهم ولكن ذلك ما زاد النصارى إلاَّ بُعداً وكراهيةً للمسلمين إلى يومنا هذا .

ومن الحقائق المُسلَّم بها عند النصارى كما تحكي كتبهم أنَّ اليهود قتلوا عيسى عليه السلام وصلبوه، وعيسى موضع قداسة عند المسيحيين، أي فوق البشر إله أو ابن إله حسب معتقداتهم ، إلاَّ أنَّهم غفروا لليهود تلك الخطيئة وأحبوهم وقدسوا مواقفهم  فالمحرقة[21]õ{  holocaust} التي ألَّفها اليهود من خيالهم وقدروا لها عدد المحروقين منهم في عهد ( هتلر الألماني ) بالملايين أصبحت شيئاً مقدماً عند اليهود والنصارى معاً    فدول الغرب تدعي حرية الرأي والنشر وحرية الاعتقاد وللمرء أن يشكك في عيسى نبيهم ويسخر منه ولكن من يذكر محرقة اليهود أو يشكك فيها جزاؤه أنُ يسجن أو عذابٌ اليم ، والبعد الإعلامي العميق الذي يستحق أن يقف عنده الناس كل الناس والمسلمون خاصة.

إنَّ الحقائق في القرآن ثوابت لا تتغير ، فالآية ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ) في حد ذاتها معجزة ، لأنَّ الإرث التاريخي أنَّ النصارى يبغضون اليهود لأنهم قتلوا وصلبوا نبيهم عيسى كما يدعون ، وكان يمكن أن يكون ذلك امتداداً واضحاً لعداءٍ ديني وسياسي بينهم على مر الزمان ، إلاَّ أنَّ خبر القرآن ظل يجلجل عن مواقفهم من الإسلام في الخصومة والكيد ، بينما الحرب ضد المسلمين أصبحت سرمدية وستظل كذلك لأن مصدر الخبر هو الله تعالى ، في كتابٍ لا يأتيه الباطل من بين يديه     ولا من خلفه.

فاليهود والنصارى يكذبون رسالة محمد صلى الله عليه وسلم ويكفرون بالقرآن ويكيدون لملة المسلمين ، ورغم ذلك يقول النبي صلى الله عليه وسلم عنهم في الحديث     ( عن واثلة قال : قال رسول صلى الله عليه وسلم : من قذف ذمياً حُدَّ له يوم القيام بسياطٍ من نارٍ ، فقلت لمكحول ما أشد ما يقال له ؟ قال: يقال له يا ابن الكافر ) رواه الطبراني [22]õ.

بهذا النهي والإعلان القاطع يجعل الإسلام لليهود والنصارى الحصانة وهم بين المجتمع المسلم الغالب عدداً والحاكم فعلاً ، فأين الغرب من إساءة الرسول صلى الله عليه وسلم في الدنمارك ، وفرنسا ، والنرويج  ؟ حيث الرسومات المسيئة لنبي المسلمين ورمز عقيدتهم ؟ ، علماً بأنَّه في تلك الدول أقليات مسلمة المساس برسولهم يسيء لهم ويسبب لهم جرحاً أليماً ، فأين احترام الأديان وحرية الاعتقاد التي يفاخر بها الغرب ؟.

إنَّ وصف الإعلام الإسلامي للولاء بين اليهود والنصارى حقيقة باقية لا علاقة لها بالزمان والمكان لأنها نابعة من طبيعة الأشياء ، فقد قرر القرآن أنَّهم لن يكونوا أولياء للمسلمين في أي أرضٍ وفي أي تاريخ ، وهاهي القرون تلو القرون تؤكد صدق تلك المعلومة ، ولم تختلف تلك القاعدة مرة واحدة ولم يقع في كل الأرض إلاَّ ما قرره القرآن ، في صيغة الوصف الدائم لا الحادث العارض ، ثم رتَّب على هذه الحقيقة الأساسية نتائجها ، فإنَّه إذا كان اليهود والنصارى بعضهم أولياء بعض فإنَّه لا يتولاهم إلاَّ من هو منهم ، فالجماعة أو الفرد الذي يتولاهم من الصف المسلم يخلع نفسه من الصف المسلم ويخلع عن نفسه صفة هذا الوصف {الإسلام} وينضم إلى الصف الآخر لأنَّ هذه هي الطبيعة الواقعية .

إنَّ القرآن قد قرر منذ البداية مبدأ المفاصلة بين الإيمان والكفر ، فقال الله تعالى : ( لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْأِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [23]õ.

إنَّ وجود يهود ونصارى ، من أهل الكتاب بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم ليس معناه أنَّ الله يقبل منهم ما هم عليه، أو يعترف لهم بأنَّهم على دينٍ إلهي ! كان ذلك قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم آخر الأنبياء، أمَّا بعد محمد صلى الله عليه وسلم فلا دين في التصور الإسلامي وفي حس المسلم إلا الإسلام وهو نص قرآني لا يقبل التأويل ( وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْأِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ) [24]õ.

إنَّ الإسلام بما فيه من حرية الاعتقاد لا يكره اليهود والنصارى على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام { لا إكراه في الدين } ولكن هذا لا يعني أنَّه يقر ما هم عليه من دين ، لأنَّهم في الأصل حرفوا كتبهم حتى تتفق مع أهوائهم ، قال تعالى : ( إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ) [25]õ .

( وهي إشارة إليهم بأنَّهم أخذوا شيئاً من دينهم بما يتفق وما في نفوسهم وردوا ما دون ذلك ، علماً بأنَّ الشرعة والمنهاج لا تقبل التجزئة ، إمًّا أنْ تؤخذ كلها أو تترك     كلها ) [26]õ .

ولهذا فضح الإعلام الإسلامي ممارسات أهل الكتاب الذين بدلوا دينهم وأظهروا في الأرض الفساد ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ) [27]õ.

إنَّ الإسلام جاء ليصحح اعتقاد المشركين والوثنيين ودعاهم جميعاً فإن تولوا فهم كافرون.






[1] õ  سورة إبراهيم – الآيتان {24-25}.
[2] õ  صحيح مسلم – مسلم – الجزء الرابع – ص {2215}- رقم الحديث {157} – صحيح ابن حبان      الجزء الخامس عشر – ص {109} رقم الحديث {6714}.
[3] õ  صحيح مسلم – الجزء الرابع – ص {2239} – رقم الحديث {2922} – مسند أحمد – الجزء الثاني    ص {417}- رقم الحديث {9387}
[4] õ  سورة إبراهيم – الآية {26}
[5] õ  سورة النساء – الآية {89}
[6] õ  عمر عبد الكريم – 2007م – شبكة المعلومات – الإنترنت – بتصرف.
[7] õ  سورة الصف – الآية {8}
[8] õ  عبد الرحمن ناصر السعدي – تيسير الكريم الرحمن – مرجع سابق – ص {1211}- بتصرف.
[9] õسورة المائدة – الآية {3}.
[10] õسورة الأنعام – الآية {38}.
[11] õسنن الترمذي – الجزء الرابع – ص {323} – رقم الحديث {1924}- مسند أحمد – الجزء الثاني        ص {160}- رقم الحديث {6494}- سنن أبي داود – باب في الرحمة - الجزء الرابع – ص {285}           رقم الحديث {4941}- الترغيب والترهيب – الجزء الثالث – ص {140} - رقم الحديث {3412}.
[12] õسورة النور– الآية {19}.
[13] õسورة الفرقان – الآيتان {68-69}.
[14]  õسورة النساء – الآية {83}.
[15] õ  سورة المائدة – الآية {51}
[16] õ سنن بن ماجة – الجزء الثاني – ص {895} – رقم الحديث { 2683}
[17] õ  سورة المائدة – الآية {52}
[18] õ  أنظر سيد قطب – في ظلال القرآن – الجزء الثاني – مرجع سابق – ص {907-908}.
[19] õ  سورة النساء – الآية {51}.
[20] õ  سورة الروم – الآيات {1-5}.
[21] õ المحرقة: الإبادة الكاملة أو الذبيحة التي تُحرق تعبداً لله.
[22] õ مجمع الزوائد – باب فيمن قذف ذمياً – ص {280}.
[23] õ سورة المجادلة – الآية {22}.
[24] õ سورة آل عمران – الآية {85}.
[25] õ سورة الأنعام – الآية {159}.
[26] õ أنظر سيد قطب – في ظلال القرآن – الجزء الثاني – مرجع سابق – ص {915}.
[27] õ سورة المائدة – الآية {18}.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق